عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

قوله تعالى : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)(١) أي القربى إلى الخير والفضل ، فالمثلى تأنيث الأمثل ، والأمثل يعبّر به عن الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير. وأماثل القوم : كناية عن خيارهم ، وعليه قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)(٢) أي الأقرب إلى الصّواب. وقال ابن عرفة في قوله : (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي يصرفان وجوه الناس الأماثل إليهما يعني يغلبان على الأشراف. قيل : والأماثل يجوز أن يكون جمع أمثل ، وأن يكون جمع أمثال ، وأمثال جمع مثل. والمثل : سيد القوم وخيارهم. وسأل أبو الهيثم رجلا فقال : ائتني بقومك ، فقال : إنّ قومي مثل ، فقال أبو الهيثم : يريد [أنهم] سادات ليس فوقهم أحد. وعلى هذا فمثل يكون للواحد والجمع. وكأنّ السادات لمّا كانوا في الغرابة بالنسبة إلى زيادة الخير أطلق عليهم لفظ المثل لذلك. وقال في قوله تعالى : (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أرشدهم مذهبا. وقولهم : المريض أمثل حالا من أمس ، من ذلك ، أي أقرب إلى الصّحة وأدنى إلى الخير.

وفي الحديث : «نهى أن يمثّل بالدابّة وأن تؤكل الممثّل بها» (٣) كانوا ينصبون الدابة عرضا يرمون عليها ، فنهاهم عن ذلك وعن أكلها إذا فعل بها ذلك لأنها ميتة إذ [لا] يقدر على ذكاتها ، ويقال بهذا المعنى : مثل به يمثل مثولا (٤) فهو ماثل وممثول. وفي الحديث : «وأن تؤكل الممثول بها» (٥).

والمثلة : التّشويه بالقتل كقطع المذاكير وصلم الأذن وجدع الأنف ، وفي الحديث : «نهى عن المثلة» (٦). ولما رأى عليه الصلاة والسّلام عمّه حمزة وقد مثّلت به كفار قريش قال : «لأمثّلنّ بسبعين رجلا» فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٧) فصبر عليه الصلاة والسّلام واحتسب وفدى وعفا.

__________________

(١) ٦٣ / طه : ٢٠.

(٢) ١٠٤ / طه : ٢٠.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٩٤ ، وذكر ابن الأثير نصف الحديث ، وتمام الحديث على أنه رواية أخرى. ورواية ابن ماجة (الذبائح ، ١٠): «.. يمثل بالبهائم ..».

(٤) وفي الأصل : مثلا.

(٥) الرواية الثانية للحديث السابق على رأي ابن الأثير فقط.

(٦) النهاية : ٤ / ٢٩٤ ، والبخاري ، مظالم ، ٣٠.

(٧) ١٢٦ / النحل : ١٦.

٨١

وفي الحديث : «من مثل بالشّعر فليس له خلاق عند الله (١) قيل : هو حلقه من الخدّين. وقيل : هو خضابه بالسّواد.

فصل الميم والجيم

م ج د :

قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)(٢) أي الواسع الكرم والجلالة. والمجد : السّعة في الكرم والتّزايد في الجلالة ؛ يقال : مجد يمجد فهو ماجد ومجيد ، ومجيد أبلغ لأنه من صيغها.

ومجد مجدا ومجادة ، وأصله من مجدت الإبل : حصلت في مرعى كثير واسع. وقد أمجدها الراعي : جعلها في ذلك. وتقول العرب : في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار أي ، يجري السّعة في بذل الفضل المختصّ بذلك النوع. ويروى : واستمجد ـ بصيغة الماضي ـ المرخ فاعل بمعنى استكثر ، أي النار.

وقيل : المجيد : الشريف. ورجل ماجد : مفضال كثير الخير.

قوله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(٣) وصف بذلك لكثرة ما يتضمّن من المكارم الدّنيوية والأخرويّة ، ولذلك وصف بالكريم. وقرىء قوله : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)(٤) بجرّ المجيد ورفعه ؛ فالجرّ على أنه نعت للعرش لعظمه وجلالة قدره وسعة خلقه ، وإليه أشار عليه / الصلاة والسّلام بقوله : «ما الكرسي في جنب العرش إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة» ، وعليه قوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٥). والرفع على أنه نعت للودود (٦) وذلك لسعة فيضه

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢٩٤.

(٢) ١٥ / البروج : ٨٥.

(٣) ١ / ق : ٥٠.

(٤) خفضه يحيى وأصحابه ، وخفضه من صفة العرش (معاني القرآن للفراء : ٣ / ٢٥٤). وقرأها ابن عامر «ذي العرش» بالياء (مختصر الشواذ : ١٧١).

(٥) ١٢٩ / التوبة : ٩ ، وغيرها. والحديث في المفردات : ٤٦٣.

(٦) من الآية : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (١٤ و ١٥ / البروج : ٨٥).

٨٢

وكثرة جوده. والتمجيد من العبد لله تعالى بالقول وذكر الصفات الحسنة ، ومن الله للعبد بإعطائه الفضل.

م ج س :

قوله تعالى : (وَالْمَجُوسَ)(١). المجوس جيل معروف (٢) وهم قوم يعبدون النار ، وقال آخرون : يعبدون الشمس والقمر ، وقال آخرون : هم قوم من النّصارى إلا أنهم اعتزلوهم ولبسوا المسوح. وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا ، وقيل : هم قوم يقولون بأن العالم أصلان : نور وظلمة. وقيل : هم قوم يتعبّدون باستعمال النجاسات ، والأصل على نجوس بالنون ، فأبدلت النون ميما. وقيل : كان لهم كتاب فرفع ، ولذلك قال عليه الصلاة والسّلام : «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم» (٣).

فصل الميم والحاء

م ح ص :

قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا)(٤). أصل المحص تخليص الشيء ممّا فيه من عيب كالفحص ، إلا أنّ الفحص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل. والمحص يقال في إبرازه عمّا هو متّصل به.

يقال : محصت الذهب ومحّصته : إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث. فمعنى التمحيص في الآية التزكية والتطهير وإزالة ما يغاير الإيمان. وكذا قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ)(٥) أي يزيل ما فيها من ظنّ لا يليق بكم. وفي الدعاء : «اللهمّ محّص عنّا ذنوبنا» أي أزلها. وحقيقته : أزل ما علق بنا واختلط وخلّصنا منه تخليص الذهب من الخبث

__________________

(١) ١٧ / الحج : ٢٢.

(٢) انظر كتابنا «معجم أعلام القرآن».

(٣) نصب الراية للحافظ الزيلعي (ط / ١ : ٤ / ١٨١).

(٤) ١٤١ / آل عمران : ٣.

(٥) ١٥٤ / آل عمران : ٣.

٨٣

ونحوه. وقال ابن عرفة : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليبتليهم ، قال : ومعنى التمحيص النقص. ومحّص الله ذنوبك ، أي نقّصها ، وسماه [الله] للكافر محقا. قال الهرويّ : سمعت الأزهريّ يقول : محّصت العقب من الشحم : نقّيته منه لتفتله وترا ، أراد تعالى : ليخلّصهم.

وفرس ممحوص القوائم أي خالص من الرّهل. وفي حديث علي ، كرّم الله وجهه ، وذكر فتنة فقال (١) : «يمحص الناس فيها كما يمحص الذهب» فتعرف جودته من رداءته. ومحص الثوب : زال عنه زئبره. ومحص الحبل : أخلق حتى ذهب زئبره ، ومحص الظبي : عدا ، بمعنى الذهاب فيه.

م ح ق :

قوله تعالى : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(٢) أي يذهبهم ويستأصلهم ، يقال : محقته فانمحق ، أي أذهبته فذهب. قوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا)(٣) أي يذهب بركته وزيادته الظاهرة لكم ، كما (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)(٤) ويزيد ما يخرج منه وإن كان نقصا فيما ترونه. فالرّبا وإن كانت زيادته ظاهرة يذهبه. والصدقة وإن كانت نقصا ظاهرا يزيدها. وما أحسن ما جاءت المقابلة بين قوله : (يَمْحَقُ) و (يُرْبِي).

وأصل المحق النقصان ، ومنه المحاق لآخر الشهر لانمحاق الهلال فيه. يقال : محقه أي نقصه وأذهب بركته.

م ح ل :

قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(٥) أي العقوبة. محل به : إذا عاقبه ، قال أبو العباس رضي الله تعالى عنهما : هو مأخوذ من قول العرب : فلان محل بفلان : إذا سعى به إلى السلطان وعرّضه لما يهلكه عنده.

__________________

(١) الحديث في النهاية : ٤ / ٣٠٢.

(٢) ١٤١ / آل عمران : ٣.

(٣) ٢٧٦ / البقرة : ٢.

(٤) تابع الآية السابقة.

(٥) ١٣ / الرعد : ١٣.

٨٤

وتمحّلت الدراهم : سعيت في طلبها ، وقال أبو زيد : المحال : النّقمة ، وقال الأزهريّ : أي شديد القوة والشدّة.

وما حلت فلانا ، أي قاومته أيّنا أشدّ ، وفي الحديث : «ولا تجعل القرآن بنا ماحلا» (١) أي ساعيا في هلاكنا على المجاز. وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة : المحال : الجدال ؛ ماحل عن أمره ، أي جادل ؛ وأنشد لذي الرّمّة (٢) : [من الوافر]

ولبّس بين أقوام فكلّ

أعدّ له السّفارة والمحالا

قال : ومنه حديث أنس رضي الله تعالى عنه (٣) : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل رسولا إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله تعالى ، فقال المشرك : صف لي إلاهك أمن فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ارجع فإذا صاعقة قد أصابته». ونزل قوله تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) ، أي الكيد والعقوبة. والمشهور أنّ ميمه أصلية لاشتقاقه من المحل كما تقدّم. وقال القتيبيّ : هو من الحيلة وميمه زائدة. وردّ عليه بأنّ ميمه أصلية بدليل أنّ كلّ ما كان على زنة فعال كمهاد وملاك ومراس كانت ميمه أصلية. وكلّ ما كان على مفعل من ذوات الواو تفتح عينه نحو : محور ومقول. وبيانه في غير هذا ، إلا أنه قد قرأ الأعمش «المحال» بالفتح ، وفسّرها ابن عباس بأنها من الحول فهي مرشّحة لما قاله القتيبيّ.

وقال بعضهم : هو من قوله : محل به محلا ومحالا ومحالا : إذا أراده بسوء. قال أبو زيد : محل الزمان : قحط ، ومكان ماحل ومتماحل ، وأمحلت الأرض. والمحالة : فقارة الظّهر والجمع المحال. ولبن ممحل ، أي فاسد ، وفي الحديث : «أنّ إبراهيم قال : أنا الذي كذبت ثلاث كذبات. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما منها كذبة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام» (٤) أي يجادل. قلت : تسميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ماحل به كذبات على طريق المجاز ، وإلا فهو مبرّأ من

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٠٣.

(٢) ديوان ذي الرمة : ٣ / ١٥٤٤.

(٣) رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي وابن جرير عن أنس ، وأخرجه الحافظ البزّار بنحوه.

(٤) النهاية : ٤ / ٣٠٣ ، أي يدافع ويجادل.

٨٥

الكذب المذموم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولذلك لم يسكت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل فسّر لأمّته تلك الكذبات وبيّن وجهها.

وفي الحديث : «القرآن شافع مشفّع وماحل مصدّق» (١) أي ساع مصدّق من : محل به إذا سعى به ، وقيل : معناه مجادل مصدّق. ومنه الحديث أيضا : «عهدهم لا ينقض عن شية ماحل» (٢) أي ساع وواش يسيء بهم. ومن كلام أمير المؤمنين عليّ رضي الله تعالى عنه : «إنّ من ورائكم فتنا متماحلة» (٣) أي متطاولة ممتدّة. والمتماحل من الرجال : الطويل ، وقال بعضهم : معنى (شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد الأخذ بالعقوبة. وكلّها معان متقاربة بألفاظ متغايرة.

م ح ن :

قوله تعالى : (فَامْتَحِنُوهُنَ)(٤) أي اختبروهنّ وجرّبوهنّ وابتلوهنّ. وقد تقدّم الكلام في الابتلاء. وأصله من : امتحنت الذهب والفضة : إذا أذبتهما لتختبرهما أهما خالصان أم لا. قال أبو عبيد في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى)(٥) أي صفّاها وهذّبها. وفي الحديث : «فذلك الشهيد الممتحن» (٦) قال شمر : هو المصفّى المهذّب ، وهذا بمعنى ما تقدّم ؛ فإنّ التصفية والتخليص من واد واحد.

م ح و :

قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(٧) أي يمحو ما يشاء ممّا يكتبه الحفظة ويثبت ما يشاء. وفي التفسير : إنّ الله ينظر كلّ يوم في اللوح المحفوظ سبعين نظرة فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء. ومعنى ذلك أنّ الله تعالى أمر الملائكة بكتب أشياء فيأمرها بأن تجعل فلانا الشقيّ سعيدا وعكسه. وفلانا الغنيّ فقيرا وعكسه ، فتفعل

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) النهاية : ٤ / ٣٠٣.

(٣) النهاية : ٤ / ٣٠٤.

(٤) ١٠ / الممتحنة : ٦٠.

(٥) ٢ / الحجرات : ٤٩.

(٦) النهاية : ٤ / ٣٠٤.

(٧) ٣٩ / الرعد : ١٣.

٨٦

ذلك. فالمحو والإثبات بالنسبة إلى علم الملائكة ، وأما علمه تعالى فلا يتبدّل ولا يتغيّر ولا يوجد في الوجود شيء إلا على وقف علمه القديم ، ولذلك عقبه بقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل ذلك الكتاب وهو علمه. وعبّر في الحديث بقوله : «ينظر عن أمره بما يريد ولا بنظر على الحقيقة». وبالجملة : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(١) وقيل : ينسخ من الأمر والنهي ويبقي ما يشاء.

وأصل المحو إزالة الأثر ، ومنه قيل للشّمال محوة لأنّها تمحو السحاب والأثر. وفي الحديث : «لي خمسة أسماء منها الماحي» (٢) لأنه يمحو الله به الكفر وآثاره ، وقال بعضهم يخاطب النعمان بن بشير (٣) : [من الطويل]

زيادتنا نعمان لا تمحونّها

تق الله فينا والكتاب الذي تتلو

يقال : محوت الكتاب محوا ومحيته محيا.

فصل الميم والخاء

م خ ر :

قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ)(٤) جمع ماخرة وهي السّفن ؛ وصفت بذلك لأنها تشقّ الماء بجناحيها أي بصدورها. والمخر : الشقّ ؛ يقال : مخرت السفينة الماء : إذا شقّته ، ومخر الأرض ، أي شقّها بالحرث ، ومخرها بالماء : إذا حبسه عليها لتصير ريّضة ، أي خليقة بالزراعة.

وقيل : مخر الأرض استقبالها بالدّور فيها. يقال : مخرت السفينة مخرا ومخورا ، واستمخرت الريح ، وامتخرتها : إذا استقبلتها بأنفك ، ومنه الحديث : «استمخروا الريح

__________________

(١) ٢٣ / الأنبياء : ٢١.

(٢) النهاية : ٤ / ٣٠٥.

(٣) البيت لعبد الله بن همّام السّلولي (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٤١٠) ، وفيه : لا تحرمنّها. وبروايته لا يكون شاهدا ل «محو». وفي اللسان (مادة وقى) : لا تنسينّها.

(٤) ١٤ / النحل : ١٦.

٨٧

وأعدّوا النّبل» (١) يعني في الاستنجاء ، قال ابن شميل : يقول : اجعلوا ظهوركم إلى الريح عند البول كأنه إذا ولّاها ظهره شقّا استبان الريح بظهره فأخذت عن يمينه وشماله ، قال : وقد يكون استقبال الريح ... (٢) عران ، المراد به ... (٣) في الحديث : «استدبار». وفي حديث آخر : «إذا بال أحدكم فليتمخّر الريح» (٤) أي ينظر أين مجراها فلا يستقبلها ولكن يستدبرها كيلا يردّ عليه البول.

والماخور : الموضع الذي يباع فيه الخمر. وقيل : هو موضع الرّيبة. ولمّا ولي زياد البصرة قال : «ما هذه المواخير؟ الشراب عليه حرام حتى تسوّى بالأرض هدما وحرقا» (٥) يعني مواضع الريبة.

فصل الميم والدال

م د د :

قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ)(٦) وقرىء في المتواتر بفتح الياء وضمّها من مدّه وأمدّه ، فقيل : بمعنى واحد. يقال : مدّ النّهر ومدّه ، وأمدّه نهر آخر. وقيل : أمدّ في المحبوب نحو قوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ)(٧)(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ)(٨). وفي المكروه [مدّ] نحو قوله تعالى : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا)(٩) ، وهذا مردود بقوله :

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٠٥ و ٥ / ١٠ ، من حديث الاستنجاء. النبل : الحجارة الصغيرة ، واحدتها نبلة. والفقهاء يفتحون فيها النون ويسكنون الباء.

(٢) كلمة غامضة في الأصل مرتبطة بالكلمة بعدها. عران : بعيدة. ولا تفصيل في مصدر آخر.

(٣) ورد في الأصل الكلمات : في الحديث استدبار ، والكلام مكرر مضطرب فأسقطناه.

(٤) النهاية : ٤ / ٣٠٥.

(٥) النهاية : ٤ / ٣٠٦.

(٦) ٢٠٢ / الأعراف : ٧.

(٧) ٢٢ / الطور : ٥٢.

(٨) ١٢ / نوح : ٧١.

(٩) ٧٩ / مريم : ١٩.

٨٨

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) في قراءة من ضمّ الياء ، ولذلك عدل بعضهم إلى عبارة أخرى ؛ قال : وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب ، والمدّ في المكروه. ومعنى الآية أنّ إخوان الشياطين تمدّهم الشياطين. وعلى هذا الوجه فالخبر جار على غير من هو له. وقيل غير ذلك ، إلا أنّ ما ذكرته عليه العامة. وفي الآية أوجه أخر حرّرتها في «الدر».

قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١) أي يمهل لهم ويطيل لهم. قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)(٢) أي بسطه ، قوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا)(٣) أي يمهله ويطيل عمره ويوسع عليه استدراجا له ، وهذا لفظه أمر ومعناه خبر ، لأنّ الله تعالى لا يأمر نفسه ، ولكنّه إذا جاء الخبر بلفظ الأمر كان أوكد. وقيل : المعنى أنّ الله تعالى جعل جزاء ضلالته إمداده فيها.

قوله : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(٤) أي زيادة ، ومنه الحديث : «مداد كلماته» (٥) أي مثلها وعددها. وقيل : المداد مصدر كالمدد ؛ مددت الشيء مدّا ومدادا. وبنو فلان بنوا بيوتهم على مداد واحد وعران واحد ومثال واحد ، كلّه بمعنى.

وأصل المدّ الجرّ والطول ، ومنه المدّة للوقت الممتدّ ، ومدّة الخرج. ومدّ النهر ومدّه مثله. وقال عثمان رضي الله تعالى عنه لبعض عماله : «بلغني أنك تزوجت امرأة مديدة» (٦) يقول : طويلة. ورجل مديد : أي طويل. والطويل والمديد بحران معروفان ، وفي حديث آخر : «ينبعث منه ميزابان من الجنة مدادهما أنهار الجنة» (٧) أي : يمدّهما أنهارهما.

قوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ)(٨) كناية عن التطلّع لما في أيديهم من زخارف الدنيا وتقليب التجارات والأولاد وغير ذلك. والمراد أمته عليه الصلاة والسّلام ؛

__________________

(١) ١٥ / البقرة : ٢.

(٢) ٤٥ / الفرقان : ٢٥.

(٣) ٧٥ / مريم : ١٩.

(٤) ١٠٩ / الكهف : ١٨.

(٥) النهاية : ٤ / ٣٠٧.

(٦) المصدر السابق : ٤ / ٣٠٩.

(٧) النهاية : ٤ / ٣٠٧.

(٨) ٨٨ / الحجر : ١٥.

٨٩

عبّر بالإعراض عن زينة الدنيا المنهيّ عنها عن مدّ الطّرف إليها ، فإن من أعجبه شيء أتبعه نظره.

والمدّ : مكيال معروف لأنه يكال به ما فيه مدد الناس وحياتهم.

م د ن :

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ)(١) المدينة : البلدة التي كثر سكانها. مدن بالمكان : إذا أقام ، ووزنها فعيلة ، وقد تقدّم أن بعضهم جعلها مفعلة فالميم مزيدة (٢).

والمدينة ـ أيضا ـ الأمة ، والمدين : العبد ، وقد تقدّم شرح ذلك مستوفى في باب الدال فأغنى عن إعادته هنا.

فصل الميم والراء

م ر أ :

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(٣) المرء : الرجل ، والأنثى : المرأة ، والأفصح فتح ميمه مطلقا ، وعليه جاء التنزيل ، وفيه لغيّة إتباع الفاء اللام في حركات إعرابها فيقال : هذا مرء ـ بضم الميم ـ ومررت بمرء ـ بكسرها ـ. ويجوز تسكين فائها في حركات الإعراب ، وعليه جاء التنزيل كقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)(٤) ويقال : رأيت امرأ ، ومررت بامرىء ، وفيه لغة ؛ فتح عينه مطلقا.

والمروءة : كمال الرجوليّة ، وقيل : هي مشتقّة من لفظ المرء ، كالرّجولة مشتقة من لفظ الرجل ؛ والفتوّة من لفظ الفتى. وهي ألفاظ محصورة لا تنقاس كالأخوّة والأبوة. فهذه مصادر لا افعال لها. وشذّ جمع المرء سلامة ؛ ومن كلام الحسن البصريّ في بعض

__________________

(١) ٢٠ / يس : ٣٦.

(٢) سئل أبو علي الفسوي فقال : ... من جعله مفعلة من قولك دين أي ملك.

(٣) ٢٤ / الأنفال : ٨.

(٤) ١٧٦ / النساء : ٤.

٩٠

عظاته : «أحسنوا ملأكم أيّها المرؤون» (١) أي أخلاقكم. والملأ : الخلق ، والملأ ـ أيضا ـ القوم الأشراف. ومن كلام رؤبة بن العجّاج : [من المنسرح]

أين تريدون أيّها المرؤون

قوله تعالى : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٢) أي سائغا في المريء ، والمريء : مجرى الطعام والشراب ، وقيل : مجرى النفس ، وهو عرق رقيق تحت الحلقوم متى لم ينحره الذابح فاته ، وقال كثّير عزّة (٣) : [من الطويل]

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلّت

وانتصابها في الآية على الحال أو المصدريّة أو الدّعاء. وهنأني الطعام ومرأني ، والقياس : أمرأني. وإنما ترك للمشاكلة ، فلو أفرد لم يقل إلا أمرأني ، ومثله : أخذ ما قدم وما حدث بضمّ دال حدث لأجل قدم ، فلو أفرد قدم فتحت داله. وقيل : المريء رأس المعدة والكرش اللاصق بالحلقوم. ومرؤ الطعام وامرأ : إذا تخصّص بالمريء لموافقة الطّبع.

م ر ت :

قوله تعالى : (هارُوتَ وَمارُوتَ)(٤) اسم ملك من الملائكة يقال إنه نزل هو وهاروت إلى الأرض ليحكما بين الناس في قصّة طويلة ففتنا (٥) ، وأنهما خيّرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، وأنهما معلّقان ببابل. واشتقاقها من المرت عند بعضهم وهو الكسر ، وفيه نظر لكونه أعجميا ، وأيضا فهو غير منصرف. ولو كان مشتقا من المرت لانصرف. ويجمعان على موارت وهوارت ، وموارتة وهوارتة.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣١٤.

(٢) ٤ / النساء : ٤.

(٣) الديوان : ١٠٠ هنيئا مريئا : منصوبان على الحال.

(٤) ١٠٢ / البقرة : ٢.

(٥) انظر قصتهما في كتابنا «معجم أعلام القرآن».

٩١

م ر ج :

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)(١) المرج : الخلط ، ومعنى ذلك أنه تعالى أجرى البحرين وأرسلهما مختلطا أحدهما بالآخر ، وجعل بينهما كما أخبر تعالى (بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٢). قال مجاهد : أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر.

قوله تعالى : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(٣) أي مختلط ؛ مرة يقولون : هو شاعر ، ومرة كاهن ، ومرة ساحر ، ومرة مجنون (٤).

ويقال : مرج الدّين أي اختلط ، ومرج الشيء : اختلط ، ومنه مروج الدّواب. ومرج الشيء ـ أيضا ـ إذا فلق فلم يثبت ، ومنه : مرج الخاتم وخرج في يده : إذا لم يستقرّ. (وقال الأزهريّ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلّى بينهما. يقال : أمرجت الدابة ، أي خليتها في المرعى) (٥).

والمرج : الإجراء ، وفي الحديث : «إذا مرج الدّين» (٦) أي فسد ، وحقيقته قلقت أسبابه ولم يثبت ، وفي الحديث : «وقد مرجت عهودهم» (٧) أي اختلطت.

قوله تعالى : (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ)(٨) أي دخان مختلط بسواد النار ، وقيل : المختلط من اللهب بالدخان ، وقال الفراء : المارج : نار دون الحجاب.

قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٩) قيل : المرجان : صغار اللؤلؤ ، وقيل : هو البسّد ، وهو جوهر أحمر.

__________________

(١) ٥٣ / الفرقان : ٢٥.

(٢) تابع الآية السابقة.

(٣) ٥ / ق : ٥٠.

(٤) يعنون به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٥) ساقط من ح و س ، والإضافة من د.

(٦) النهاية : ٤ / ٣١٤.

(٧) المصدر السابق.

(٨) ١٥ / الرحمن : ٥٥.

(٩) ٢٢ / الرحمن : ٥٥.

٩٢

م ر ح :

قوله تعالى : (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)(١). المرح : شدّة البطر والفرح والتّوسّع فيه. قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)(٢) أي مشيا مرحا ، أي مرح ، أو يكون مفعولا له وهو الظاهر. وقرىء بكسر الراء على الحال من فاعل فعل النّهي. ومرحى : كلمة تعجب.

م ر د :

قوله تعالى : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ)(٣) أي أملس ، ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشّعر. وشجر أمرد : لا ورق به. ورملة مرداء : لا نبات بها. ومرد فلان عن القبائح أو عن المحاسن ، أي تعرّى منها وتجرّد.

وقوله : (شَيْطانٍ مَرِيدٍ)(٤) أي خارجا عن الحقّ متجردا من الخير ، معروريا منه.

وقد مرد الرجل يمرد مرودا : إذا خرج عن الطاعة ونزع منها يده. وتمرّد ، أي عتا وزاد في الطّغيان. كلّ ذلك في معنى التجرّد والتّعرّي. وقيل : ممرّد : مطوّل في البناء ، والأول أظهر ، إليه أشار الشاعر بقوله (٥) : [من السريع]

في مجدل شيد بنيانه

يزلّ عنه ظفر الطائر

ومنه : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)(٦) أي مرنوا عليه وضربوا به وتزايد عتوّهم فيه. و «مارد» :

__________________

(١) ٧٥ / غافر : ٤٠.

(٢) ٣٧ / الإسراء : ١٧.

(٣) ٤٤ / النمل : ٢٧.

(٤) ٣ / الحج : ٢٢.

(٥) البيت للأعشى (الديوان : ١٤٧). ورواية اللسان : شدد. وفي رواية المفردات : ظفر الظافر ، وهو وهم. المجدل : القصر.

(٦) ١٠١ / التوبة : ٩.

٩٣

اسم حصن للزّبّاء ، ومن كلامها : «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» (١). والمرد : ثمر الأراك لملاسته ونعومته ، وأنشد :

ينقص المرد شادن

م ر ر :

قوله تعالى : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(٢) قال الفراء : معناه باطل سيذهب ، من قولك : استمرّ أمر فلان : إذا ثبت واستقرّ ، وقال غيره : قويّ محكم ، من قولك : أمررت الحبل فهو مرير وممرّ : إذا أحكمت فتله ، ومنه قوله تعالى : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى)(٣) أي قوة ، من الإمرار. وقال آخرون : مستمرّ أي نافذ ماض فيما سخّر له. وقوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)(٤) قيل : قويّ محكم وقيل : دائم نحسه ، وقيبل : نافذ فيما أمر به وسخّر له. وقيل : مستمرّ بمعنى مرّ من المرارة ضدّ الحلاوة ، وقيل : إنه يوم الأربعاء ، قال الهرويّ : الذي لا يدور في الشهر.

قوله : (ذُو مِرَّةٍ) أي قوة ، من حبل ممرّ وفرس ممرّ ، أي موثق الحلق ، ويعني به جبريل ، لأنه اقتلع سبع مدائن إلى الجوّ بريشة من ريشه ، وهو أقوى من ذلك ، وصاح على أهل أنطاكية صيحة واحدة فماتوا. وفي الحديث : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سويّ» (٥).

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها)(٦) أي

__________________

(١) قالته الزباء ، ومارد والأبلق حصنان امتنعا على الزباء (وليسا لها). ويضرب [بهما] المثل في العزة والمنعة (المستقصي : ٢ / ٢٢).

(٢) ٢ / القمر : ٥٤.

(٣) ٦ / النجم : ٥٣.

(٤) ١٩ / القمر : ٥٤.

(٥) النهاية : ٤ / ٣١٦.

(٦) ١٠٥ / يوسف : ١٢.

٩٤

يتجاوزونها ويبصرونها ، من قولك : مررت على فلان إذا جزت عليه ، والمشهور تعديته بحرف الجرّ على أو الباء ، كقوله (١) : [من الكامل]

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

وقال تعالى : (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ، وقد توسّع فيه ضمن معنى المتعدّي فنصب بنفسه ، كقول الشاعر (٢) : [من الوافر]

تمرّون الدّيار فلم تعوجوا

كلامكم عليّ إذا حرام

قوله تعالى : (فَمَرَّتْ بِهِ)(٣) أي استمرّت ، أي قامت وقعدت ، ولم تستثقل به. ولذلك فسّره بعضهم شجعت ، كأنه رأى بعده (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ). وقرىء مرت ـ بتخفيف الراء ـ من المرية (٤). وفي حديث الوحي : «سمعت الملائكة مرار السّلسلة على الصّفا» (٥) المرار من الإمرار في الفتل. قال الهرويّ : ولو روي «إمرارا» لكان حسنا ؛ يقال : أمررت الشيء : إذا جررته ، وأنشد : [من الكامل]

ونقي ... (٦) ما لنا أحسابنا

ونمرّ في الهيجا الرماح وندّعي

قلت : ويؤيده ما في حديث آخر «كإمرار الحديد على الطّشت الجديد» (٧).

قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ)(٨) أي اجتازوا ، وفيه تنبيه على أنّهم إذا دفعوا بالقوة إلى اللغو كفّوا عنه ، وإذا سمعوا تصامموا عنه ، وإذا شاهدوا أعرضوا عنه. قوله : (مَرَّ كَأَنْ

__________________

(١) البيت لرجل من بني سلول مولّد. والبيت من الشواهد النحوية المشهورة ؛ الكتاب : ٣ / ٢٤ ، المغني : ١٠٢ ، الخصائص : ٣ / ٣٠٣.

(٢) البيت لجرير ، يستشهد اللغويون على هذه الرواية. بجواز تعدية «مر» بنفسه أو بحرف جرّ. وله رواية أخرى في كتب اللغة «مررتم بالديار» (اللسان ـ مر). على أن رواية الصدر في الديوان : ٥١٢ :

أتمضون الرسوم ولا تحيّا

(٣) ١٨٩ / الأعراف : ٧.

(٤) هي قراءة يحيى بن يعمر. وقرأها ابن أبي عمار «فمارت» وابن عباس «فاستمرت به» (مختصر الشواذ : ٤٨).

(٥) النهاية : ٤ / ٣١٧.

(٦) بياض في الأصل.

(٧) النهاية : ٤ / ٣١٧. وفيه : الطست.

(٨) ٧٢ / الفرقان : ٢٥.

٩٥

لَمْ يَدْعُنا)(١) أي ذهب ، ومثله في المعنى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)(٢).

قوله : (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)(٣) المرّة : المدّة من الزمان ، وهي في الأصل مصدر ؛ فالمرة والمرّتان كالفعلة والفعلتين ، أطلقت على كلّ جزء من الزمان. وفي الحديث : «ماذا في الأمرّين من الشّفاء ؛ الصّبر والثّفاء» (٤) هذا بلفظ التّثنية ، والأمرّ بمعنى المرّ كالأثقل بمعنى الثقيل ، فإذا قيل : كفيت منه الأمرّين ، أي الدّواهي ، قلت : الأمرّين بلفظ جمع العقلاء.

وفي الحديث : «كره من الشاء سبعا : الدّم والمرار ..» (٥) قال القتيبيّ : أراد المحدّث أن يقول : الأمرّ ، وهي المصارين ، فقال : المرار ، وأنشد (٦) : [من الوافر]

فلا تهدي الأمرّ وما يليه

ولا تهدنّ معروق العظام

وقال الليث : المرار جمع المرارة ، قال : والمرارة لكلّ ذي روح إلا البعير.

م ر ض :

قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(٧) أي نفاق ، وأصل المرض الخروج عن اعتدال المزاج الصحيح الخاصّ بالإنسان ، وذلك ضربان : مرض جسمي ، وهو المذكور في قوله : (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(٨). والثاني عبارة عن الرذائل الكائنة في القلب كالبخل والجبن والجهل والحسد والنفاق من الرذائل الخلقيّة ، أي المكتسبة بالانفعال. قال بعضهم : وتشبيه النفاق والكفر وغيرهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعة من إدراك

__________________

(١) ١٢ / يونس : ١٠.

(٢) ٨٣ / الإسراء : ١٧.

(٣) ١٢٦ / التوبة : ٩.

(٤) النهاية : ٤ / ٣١٧. الصبر : الدواء المر المعروف. الثفاء (على وزن غراب). الخردل.

(٥) النهاية : ٤ / ٣١٦.

(٦) اللسان ـ مادة مرر.

(٧) ١٠ / البقرة : ٢.

(٨) ٦١ / النور : ٢٤.

٩٦

الفضائل كالمرض والمانع للبدن من التصرّف الكامل ، وإما لكونها مانعة من تحصيل الحياة الأخروية المشار إليها بقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)(١) ، وإمّا لميل النفس به إلى الاعتقادات الرديئة لميل البدن المريض إلى الأشياء المضرّة ، قال : وتكون هذه الأشياء متصوّرة بصورة المرض ؛ قالوا : دوي صدره ، ونغل قلبه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّ داء أدوأ من البخل؟» (٢) واستعير ذلك من قولهم : شمس مريضة ، أي غير مضيئة لعارض عرض لها.

والتمريض : القيام على المريض ، وحقيقته إزالة المرض ، كالتّقذية : إزالة القذى ، وقيل : في قلوبهم شكّ ، وقيل : ظلمة. وأنشد (٣) : [من البسيط]

وليلة مرضت من كلّ ناحية

فما يحسّ بها شمس ولا قمر

وفلان يمرّض القول ، أي لا يصحّحه. وقال ابن عرفة : المرض في القلوب فتور عن الحقّ ، وفي الأبدان فتور عن الأعضاء ، وفي العيون عن النظر.

م ر ي :

قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ)(٤) قيل : الشكّ ، وقال آخرون : المرية : التردّد في الأمر ، وهو أخصّ من الشكّ ، قاله الراغب (٥) : وفيه نظر ؛ فإنّ الشكّ تردّد أيضا مع تساوي الطرفين.

قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٦) هو يفعلون من المرية أي يشكّونه. قوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً)(٧) أي لا تجادل وتحاجج.

__________________

(١) ٦٤ / العنكبوت : ٢٩.

(٢) صحيح البخاري ، الخمس ، ١٥.

(٣) اللسان ـ مادة مرض ، منسوب إلى أبي حبّة ، وفيه :

فلا يضيء لها نجم ولا قمر

(٤) ١٠٩ / هود : ١١.

(٥) المفردات : ٤٦٧.

(٦) ٣٤ / مريم : ١٩.

(٧) ٢٢ / الكهف : ١٨.

٩٧

والامتراء والمماراة ، المحاججة فيما فيه مرية. قيل : وأصل ذلك من : مريت الناقة : مسحت ضرعها للحلب.

قوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)(١) أي أفتجادلونه مجادلة الشاكين المتحيّرين لا الكائنين على بصيرة فيما تخاصمون فيه. وقرىء فتمرونه (٢) ، وفسّرت بالجحود ، أي أفتجحدونه؟ والمراد : المجادلة ، قال الشاعر (٣) : [من الطويل]

وإياك إياك المراء فإنه

إلى الشرّ دعّاء وللشرّ جالب

ويشهد لقراءة «تمرونه» قول الآخر : [من البسيط]

وقد مريت أخا ما كان يمريكا

وفي الحديث : «لا تماروا في القرآن فإنّ مراء فيه كفر» (٤) ، قال أبو عبيد : ليس معنى الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ، ولكنه على الاختلاف في اللفظ ، وذلك أن يقرأ الرجل بشيء فيقول له آخر : ليس ذلك كذا ، وقد أنزلا جميعا ، يشهد / لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (٥). فالمماراة : أن يستخرج الرجل من مخاصمه كلاما ومعاني من خصومة وغيرها ، من مريت الشاة والناقة كما تقدّم ـ أي استخرجت لبنها بمسح ضرعها. يقال : ماريت الرجل وماررته (٦). ومنه قول الأسود (٧) : «ما فعل الذي كانت امرأته تشارّه وتمارّه؟». وفي الحديث : «إمر الدّم بما شئت» (٨) أي استخرجه ، من مرى

__________________

(١) ١٢ / النجم : ٥٣.

(٢) قرأها حمزة والكسائي ومن وافقهما (الإتحاف : ٢٤٨).

(٣) من شواهد المغني : ٦٧٩ ، شرح المفصل : ٢ / ٢٥ ، الكتاب : ١ / ٢٧٩. والبيت للفضل بن عبد الرحمن القرشي يقوله لابنه القاسم.

(٤) النهاية : ٤ / ٣٢٢.

(٥) صحيح البخاري ، خصومات ، ٤.

(٦) أي خالفته وتلوّيت عليه.

(٧) وكذا في اللسان. وفي النهاية : «أبي الأسود» (٤ / ٣١٧) في مادة مرر.

(٨) النهاية : ٤ / ٣٢٢.

٩٨

الناقة. ويروى «أمر الدّم» بكسر الدم ، من : مار يمور : إذا سال أي أجره وأسله ، وتلك مادة أخرى. وفي حديث الأحنف : «وساق معه ناقة مريّاء» (١) أي تدرّ على المري.

فصل الميم والزاي

م ز ج :

قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها)(٢). المزاج : ما يمزج به الشراب. وأصل المزج الخلط ، ومنه : مزجت الماء بالعسل واللبن بالماء ، وقال حسان رضي الله عنه (٣) : [من الوافر]

كأنّ خبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

وامتزج فلان مع فلان ، أي خالطه بودّ وصفاء كامتزاج الماء وما يخلط به. ومزاج الإنسان : طبيعته وخلقه وصحته وسقمه.

م ز ق :

قوله تعالى : (وَمَزَّقْناهُمْ)(٤) أي قطّعناهم ومزّقناهم في البلاد بعد اجتماعهم في بلدة طيبة آمنين. يقال : مزّقت الأديم ، أي قطعته قطعا.

قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)(٥) أي فرّقت أوصالكم وانقطعت أجسامكم. وممزّق يعني تمزيق ، أي كلّ تمزيق. ويقال على الاستعارة : مزّق عرضه : إذا تناوله بما لا يليق. قال زيد الخيل رضي الله تعالى عنه (٦) : [من الوافر]

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٢٣.

(٢) ٥ / الإنسان : ٧٦.

(٣) الديوان : ٢ / ١٧.

(٤) ١٩ / سبأ : ٣٤.

(٥) ٧ / سبأ : ٣٤.

(٦) شرح المفصل : ٦ / ٧٣.

٩٩

أتاني أنهم مزقون عرضي

جحاش الكرملين لها فديد

م ز ن :

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ)(١). المزن : السحاب ، واحدتها مزنة ، قال الشاعر (٢) : [من المتقارب]

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وقيل : السحاب المضيء ، وهو أخصّ من السحاب ، والقطعة منه مزنة ، ويقال للهلال الذي يبدو من خلل السحاب ابن مزنة. وفلان يتمزّن ، أي يتكرّم ويتشبّه بالمزن.

ومزينة : قبيلة معروفة كأنه تصغير مزنة. والمازن : بيض النّمل ؛ اسم رجل أيضا نقل من أصله. ومنه قولهم : ماز رأسك والسّيف ، يريدون : يا مازن ق رأسك ، فرخّموا (٣).

والمزنيّ المشهور رضي الله تعالى عنه نسبة إلى مزن. ومزن جمع مزنة نحو غرفة وغرف. ومزنت فلانا : شبّهته بالمزن.

فصل الميم والسين

م س ح :

قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)(٤) أي الصقوا المسح برؤوسكم. وأصل المسح : إمرار اليد على الشيء وإزالة الأثر عنه ، وقد يستعمل في كلّ واحد منهما ، يقال : مسحت يدي بالمنديل.

قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ)(٥) أي ضربا بالسيف وهو مستعار ؛ يقال :

__________________

(١) ٦٩ / الواقعة : ٥٦.

(٢) قاله عامر بن جوين الطائي (اللسان ـ مادة بقل). ولم يقل : أبقلت لأن تأنيث الأرض ليس بتأنيث حقيقي.

(٣) قتله بجير وقال له هذا القول. ثم كثر استعمالهم له فقالوه لكل من أرادوا قتله ، يريدون : مدّ عنقك.

(٤) ٦ / المائدة : ٥.

(٥) ٣٣ / ص : ٣٨.

١٠٠